فصل: فصل حُكْم الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ على الْجِنَازَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ على الْجِنَازَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ من الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ في كتاب صَلَاتِهِ عن أبي حَنِيفَةَ أرحمه الله تعالى نه قال في الرَّجُلِ يَقُومُ بِحِذَاءِ وَسَطِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا وهو قَوْلُ ابْنِ أبي لَيْلَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ في الْقِيَامِ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ تَسْوِيَةً بين الْجَانِبَيْنِ في الْحَظِّ من الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ في الْمَرْأَةِ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عن عَوْرَتِهَا الْغَلِيظَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدْرَ هو وَسَطُ الْبَدَنِ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسَ من جُمْلَةِ الْأَطْرَافِ فَيَبْقَى الْبَدَنُ من الْعَجِيزَةِ إلَى الرَّقَبَةِ فَكَانَ وَسَطُ الْبَدَنِ هو الصَّدْرُ وَالْقِيَامُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ الْجَانِبَانِ في الْحَظِّ من الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَالْوُقُوفُ بِحِيَالِهِ أَوْلَى وَلَا نَصَّ عن الشَّافِعِيِّ في كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ يَقُومُ بِحِذَاءِ رَأْسِ الرَّجُلِ وَبِحِذَاءِ عَجُزِ الْمَرْأَةِ وَيَكُونُ هذا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى على امْرَأَةٍ فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَصَلَّى على رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقِيلَ له أَكَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي كَذَلِكَ قال نعم قالوا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ فَيَكُونُ هذا مَذْهَبَهُ وَإِنْ لم يُرْوَ عنه وَلَكِنَّا نَقُولُ هذا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى سَمُرَةُ بن جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلى على أُمِّ قِلَابَةَ مَاتَتْ في نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الصَّدْرَ وَسَطُ الْبَدَنِ أو نُؤَوِّلُ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ في أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ إلَى الرَّأْسِ وفي الْآخَرِ إلَى الْعَجُزِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وكان ابن أبي لَيْلَى يقول خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ رحمهما الله تعالى وقد اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في فِعْلِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُوِيَ عنه الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ وَأَكْثَرُ من ذلك إلَّا أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ كان أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَمَعَ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حين اخْتَلَفُوا في عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وقال لهم إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِلَافًا منكم فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صلاها رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فوجدوه ‏[‏فوجده‏]‏ صلى على امْرَأَةٍ كَبَّرَ عليها أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا على ذلك فَكَانَ ذلك دَلِيلًا على كَوْنِ التَّكْبِيرَاتِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عليها حتى قال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه حين سُئِلَ عن تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ كُلُّ ذلك قد كان وَلَكِنِّي رأيت الناس أَجْمَعُوا على أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَكَذَا رَوَوْا عنه أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَا كان يَفْعَلُ ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانت بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ حَيْثُ لم تَحْمِلْ الْأُمَّةُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ على التَّخْيِيرِ فَدَلَّ أَنَّ ما تَقَدَّمَ نُسِخَ بِهَذِهِ التي صَلَّاهَا آخِرَ صَلَاتِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَلَيْسَ في الْمَكْتُوبَاتِ زِيَادَةٌ على أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ أبي لَيْلَى يقول التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَالرَّافِضَةُ زَعَمَتْ أَنَّ عَلِيًّا كان يُكَبِّرُ على أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ وَعَلَى سَائِرِ الناس أَرْبَعًا وَهَذَا افْتِرَاءٌ منهم عليه فإنه رُوِيَ عنه أَنَّهُ كَبَّرَ على فَاطِمَةَ أَرْبَعًا وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى على فَاطِمَةَ أبو بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَعُمَرُ صلى على أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا فإذا كَبَّرَ الْأُولَى أَثْنَى على اللَّهِ تَعَالَى وهو أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا اسْتِفْتَاحَ فيه وَلَكِنَّ النَّقْلَ وَالْعَادَةَ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ كما يَسْتَفْتِحُونَ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وإذا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ ‏(‏اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ‏)‏ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏)‏ وإذا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُونَ وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالسُّنَّةُ في الدُّعَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَمْدَ ثُمَّ الصَّلَاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ ذلك لِيَكُونَ أَرْجَى أَنْ يُسْتَجَابَ وَالدُّعَاءُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كان يُحْسِنُهُ وَإِنْ لم يُحْسِنْهُ يَذْكُرُ ما يَدْعُو بِهِ في التَّشَهُّدِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخره ‏[‏آخر‏]‏ هذا إذَا كان بَالِغًا فَأَمَّا إذَا كان صَبِيًّا فإنه يقول اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لنا فَرَطًا وَذُخْرًا وَشَفِّعْهُ فِينَا كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وهو الْمَرْوِيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُ جاء أَوَانُ التَّحَلُّلِ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ لم يَتَعَرَّضْ له في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْلِيمِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ بِلَا فصل وَلَكِنَّ الْعَمَلَ في زَمَانِنَا هذا يُخَالِفُ ما يَقُولُهُ الْحَسَنُ وَلَيْسَ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ وقد اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا ما يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ ‏(‏اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الْآخِرَةِ حَسَنَةً إلى ‏[‏إلخ‏]‏ آخره‏)‏ فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لم يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي في الْخَامِسَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يُتَابِعُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا مُجْتَهَدٌ فيه فَيُتَابِعُ الْمُقْتَدِي إمَامَهُ كما في تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلَنَا أَنَّ هذا عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ لِأَنَّ ما زَادَ على أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا فَظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ فيه فَلَا يُتَابِعُهُ في الْخَطَأِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ لِأَنَّهُ لم يَظْهَرْ خطأه بِيَقِينٍ حتى لو ظَهَرَ لَا يُتَابِعُهُ على ما ذَكَرْنَا في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَاذَا يَفْعَلُ إذَا لم يُتَابِعْهُ في التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ في رِوَايَةٍ قال يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حتى يُتَابِعَهُ في التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ في حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ليس بِخَطَأٍ إنَّمَا الْخَطَأُ مُتَابَعَتُهُ في التكبير ‏[‏التكبيرة‏]‏ فَيَنْتَظِرُهُ وَلَا يُتَابِعُ وفي رواية‏:‏ قال يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ لِأَنَّ الْبَقَاءَ في التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ خَطَأٌ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ عَقِيبَهَا هو الْمَشْرُوعُ بِلَا فصل فَلَا يُتَابِعُهُ في الْبَقَاءِ كما لَا يُتَابِعُهُ في التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ وَلَا يَقْرَأُ في الصَّلَاةِ على الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ من الْقُرْآنِ وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فيها وَذَلِكَ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بَعْدَ الثَّنَاءِ وَعِنْدَنَا لو قَرَأَ الْفَاتِحَةَ على سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لم يُكْرَهْ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فيها وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ على مَيِّتٍ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بفاتحة ‏[‏فاتحة‏]‏ الْكتاب بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ صلى على جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فيها بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَجَهَرَ بها وقال إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أنها سُنَّةٌ وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هل يُقْرَأُ فيها فقال لم يُوَقِّتْ لنا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً وفي رواية‏:‏ دُعَاءً وَلَا قِرَاءَةً كَبِّرْ ما كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ من أَطْيَبِ الْكَلَامِ ما شِئْت وفي رواية‏:‏ وَاخْتَرْ من الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَرُوِيَ عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا قَالَا ليس فيها قِرَاءَةُ شَيْءٍ من الْقُرْآنِ وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَمُقَدِّمَةُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالصَّلَاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم لَا الْقِرَاءَةُ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏[‏السلام‏]‏ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ على ‏[‏حقيقة‏]‏ الحقيقة إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس فيها الْأَرْكَانُ التي تَتَرَكَّبُ منها الصَّلَاةُ من الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أنها تُسَمَّى صَلَاةً لِمَا فيها من الدُّعَاءِ وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فيها لَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا صَلَاةً حَقِيقِيَّةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ الِاسْمِ‏.‏

وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ وَتَأْوِيلُ حديث جَابِرٍ أَنَّهُ كان قَرَأَ على سَبِيلِ الثَّنَاءِ لَا على سَبِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ ليس بِمَكْرُوهٍ عِنْدَنَا وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا في التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَكَثِيرٌ من أَئِمَّةِ بَلْخٍ اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ في كل تَكْبِيرَةٍ من صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وكان نُصَيْرُ بن يحيى يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً وَجْهُ قَوْلِ من اخْتَارَ الرَّفْعَ أَنَّ هذه تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بها في قِيَامٍ مُسْتَوِي فَيَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَالْجَامِعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِ من خَلْفَهُ من الْأَصَمِّ

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعِ مَوَاطِنَ وَلَيْسَ فيها صَلَاةُ الْجِنَازَةِ‏.‏

وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فيها إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ثُمَّ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَنَا فَكَذَا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِيبَ كل تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ ذكروا السنة ‏[‏والسنة‏]‏ فيه الْمُخَافَتَةُ وإذا صَلَّيْنَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً على جِنَازَةٍ قَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ كما في الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أو تَكْبِيرَتَيْنِ أو ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ جاء رَجُلٌ لَا يُكَبِّرُ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ حتى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ معه ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ما عليه قبل أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ وَهَذَا قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى يُكَبِّرُ وَاحِدَةً حين يَحْضُرُ ثُمَّ إنْ كان الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لم يَقْضِ شيئا وَإِنْ كان كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً وَلَا يَقْضِي تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هو يقول أنه مَسْبُوقٌ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الِائْتِمَامِ حين انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَكَمَا لو كان حَاضِرًا مع الْإِمَامِ وَوَقَعَ تَكْبِيرُ الِافْتِتَاحِ سَابِقًا عليه أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هذا‏.‏

وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال في الذي انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وهو في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وقد سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِتَكْبِيرَةٍ أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ ما سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَلْ يُتَابِعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عنه ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ من هذه الصَّلَاةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَرَكَ تَكْبِيرَةً منها تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كما لو تَرَكَ رَكْعَةً من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في الْحَالَةِ التي أَدْرَكَهَا وَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ أَوَّلًا لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ مَنْسُوخٌ كَذَا هَهُنَا وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا كان حَاضِرًا لِأَنَّ من كان خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ في حُكْمِ الْمُدْرِكِ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْإِمَامِ وَيَقَعُ ذلك أَدَاءً لَا قَضَاءً فَيَأْتِي بها حين حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فإنه غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قبل سَلَامِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْضِي ما فَاتَهُ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي الْفَائِتَ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ قبل أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِدُونِ الْجِنَازَةِ لَا تُتَصَوَّرُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى إنْ كان الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لم يَقْضِ شيئا وَإِنْ كَبَّرَ اثنتين قَضَى وَاحِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ جاء بَعْدَمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ قبل السَّلَامِ لم يَدْخُلْ معه وقد فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى يُكَبِّرُ وَاحِدَةً وإذا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ كما لو كان حَاضِرًا خَلْفَ الْإِمَامِ ولم يُكَبِّرْ شيئا حتى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ والصحيح ‏[‏الصحيح‏]‏ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ لِمَا قُلْنَا والإمام ‏[‏الإمام‏]‏ لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ هذا لِتَتَابُعِهِ وَالْأَصْلُ في الْباب عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَدْخُلُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ من الرَّابِعَةِ تَعَذَّرَ عليه الدُّخُولُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى يَدْخُلُ إذَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ وَذَكَرَ عِصَامُ بن يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَهُنَا يُكَبِّرُ أَيْضًا بِخِلَافِ ما إذَا جاء وقد كَبَّرَ الْإِمَامُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ حَيْثُ لَا يُكَبِّرُ بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حتى يُكَبِّرَ الرَّابِعَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقَضَاءِ ما سَبَقَ قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ إنْ كان لَا يَجُوزُ لَكِنْ جَوَّزْنَا هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ لو انْتَظَرَ الْإِمَامَ هَهُنَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ‏.‏

فصل بَيَانِ ما تَصِحُّ بِهِ صلاة الجنازة وما تَفْسُدُ وما يُكْرَهُ

وَأَمَّا بَيَانُ ما تَصِحُّ بِهِ وما تَفْسُدُ وما يُكْرَهُ أَمَّا ما تَصِحُّ بِهِ فَكُلُّ ما يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ من الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالنِّيَّةِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا حتى أَنَّهُمْ لو صَلَّوْا على جِنَازَةٍ وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ فَكَذَا صَلَاتُهُمْ لِأَنَّهَا بِنَاءً على صَلَاتِهِ وَلَوْ كان الْإِمَامُ على الطَّهَارَةِ وَالْقَوْمُ على غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ ولم يَكُنْ عليهم إعَادَتُهَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في هذه الصَّلَاةِ وَلَوْ أخطأوا ‏[‏أخطئوا‏]‏ بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهُ في مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عليها جَازَتْ الصَّلَاةُ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْوَضْعِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذلك فَقَدْ أساؤوا ‏[‏أساءوا‏]‏ لِتَغْيِيرِهِمْ السُّنَّةَ المتواترة ‏[‏المتوارثة‏]‏ وَلَوْ تَحَرَّوْا على جِنَازَةٍ فأخطأوا ‏[‏فأخطئوا‏]‏ الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ تَجُوزُ فَهَذِهِ أَوْلَى وَإِنْ تَعَمَّدُوا خلافهم ‏[‏خلافها‏]‏ لم تَجُزْ كما في اعْتِبَارِ شَرْطِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ صلى رَاكِبًا أو قَاعِدًا من غَيْرِ عُذْرٍ لم تُجْزِهِمْ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تُجْزِئَهُمْ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وهو لايختلف وَالْأَرْكَانُ فيها التَّكْبِيرَاتُ وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا في حَالَةِ الرُّكُوبِ كما يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا في حَالَةِ الْقِيَامِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إن الشَّرْعَ ما وَرَدَ بها إلَّا في حَالَةِ الْقِيَامِ فيراعي فيها ما وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْخَلَلِ في شَرَائِطِهَا فَكَذَا في الرُّكْنِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الرُّكْنَ أَهَمُّ من الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ قُعُودًا أو رُكْبَانًا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَيِّتِ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا تَسْقُطُ في حَقِّ من تَجِبُ إهَانَتُهُ كَالْبَاغِي وَالْكَافِرِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ ما شُرِعَ لِلتَّعْظِيمِ على وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ على مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَوْ كان وَلِيُّ الْمَيِّتِ مَرِيضًا فصلى قَاعِدًا وَصَلَّى الناس خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَهُمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى وقال مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى يجزىء الْإِمَامَ وَلَا يجزىء الْمَأْمُومَ بِنَاءً على اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ وقد مَرَّ ذلك وَلَوْ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ إنهم لم يُغَسِّلُوهُ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أما إن ذَكَرُوا قبل الدَّفْنِ أو بَعْدَهُ فَإِنْ كان قبل الدَّفْنِ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عليه لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ عليه كما أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ شَرْطٌ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فَتُعْتَبَرُ طَهَارَتُهُ فإذا فُقِدَتْ لم يُعْتَدَّ بِالصَّلَاةِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَإِنْ ذَكَرُوا بَعْدَ الدَّفْنِ لم يَنْبُشُوا عنه لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عليه لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عليه لِمَا بَيَّنَّا وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُخْرَجُ ما لم يُهِيلُوا عليه التُّرَابَ لِأَنَّ ذلك ليس بِنَبْشٍ فَإِنْ أَهَالُوا التُّرَابَ لم يُخْرَجْ وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عليه لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لم تُعْتَبَرْ لِتَرْكِهِمْ الطَّهَارَةَ مع الْإِمْكَانِ وَالْآنَ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الطَّهَارَةُ فَيُصَلَّى عليه وَلَوْ دُفِنَ بَعْدَ الْغُسْلِ قبل الصَّلَاةِ عليه صلى عليه في الْقَبْرِ ما لم يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ وفي الْأَمَالِي عن أبي يُوسُف رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال يصلي عليه إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَ ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَمَّا قبل مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ‏.‏

فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قَبْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فلما جَازَتْ الصَّلَاةُ على الْقَبْرِ بَعْدَ ما صلى على الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلَأَنْ تَجُوزَ في مَوْضِعٍ لم يُصَلَّ عليه أَصْلًا أَوْلَى وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يصلي لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ على الْبَدَنِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ يَنْشَقُّ وَيَتَفَرَّقُ فَلَا يَبْقَى الْبَدَنُ وَهَذَا لِأَنَّ في الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَتَفَرَّقُ وفي الْكَثِيرَةِ يَتَفَرَّقُ فَجُعِلَتْ الثَّلَاثُ في حَدِّ الْكَثْرَةِ لِأَنَّهَا جَمْعٌ وَالْجَمْعُ ثَبَتَ بِالْكَثْرَةِ وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُعْتَادِ وَالْغَالِبُ في الْعَادَةِ أَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ يَتَفَسَّخُ وَيَتَفَرَّقُ أَعْضَاؤُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هذا ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ في الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ في السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَبِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَيُحَكَّمُ فيه غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صلى على شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَالله أعلم‏.‏أَنَّهُ دَعَا لهم قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَصَلِّ عليهم إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم‏}‏ وَالصَّلَاةُ في الْآيَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَقِيلَ إنَّهُمْ لم تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ فإن مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُمْ وَجَدَهُمْ كما دُفِنُوا فَتَرَكَهُمْ وتجوز الصَّلَاةُ على الْجَمَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فإذا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صلى عليهم دَفْعَةً وَاحِدَةً وَإِنْ شَاءَ صلى على كل جِنَازَةٍ على حِدَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم أُحُدٍ على كل عَشَرَةٍ من الشُّهَدَاءِ صَلَاةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ وهو الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَوْتَى يَحْصُلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ على كل وَاحِدَةٍ على حِدَةٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ ثُمَّ كَيْفَ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ إذَا اجْتَمَعَتْ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت من جِنْسٍ وَاحِدٍ أو اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَإِنْ كان الْجِنْسُ مُتَّحِدًا فَإِنْ شاؤا جَعَلُوهَا صَفًّا وَاحِدًا كما يَصْطَفُّونَ في حَالِ حَيَاتِهِمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَإِنْ شاؤا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِيَقُومَ الْإِمَامُ بِحِذَاءِ الْكُلِّ هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى من الْأَوَّلِ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ هو يَحْصُلُ في الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وإذا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمَا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَأَسَنُّهُمَا وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ لقوله ‏[‏لقول‏]‏ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ إنْ وُضِعَ رَأْسُ كل وَاحِدٍ منهم بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ‏.‏

وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ كما قال ابن أبي لَيْلَى وهو أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ رضي الله عنهما دُفِنُوا على هذه الصِّفَةِ فَيَحْسُنُ الْوَضْعُ لِلصَّلَاةِ على هذا التَّرْتِيبِ أَيْضًا وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الرِّجَالِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ في حَالِ الْحَيَاةِ ثُمَّ إنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ من النِّسَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من قال تُوضَعُ النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ لِأَنَّ في الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ في حَالِ الْحَيَاةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَا في وَضْعِ الْجَنَائِزِ وَلَوْ اجْتَمَعَ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٍ وَصَبِيَّةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالصَّبِيُّ وَرَاءَهُ ثُمَّ الْخُنْثَى ثُمَّ الْمَرْأَةُ ثُمَّ الصَّبِيَّةُ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أولو ‏[‏أولوا‏]‏ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَلِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَقُومُونَ في الصَّفِّ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُوضَعُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ على جِنَازَةٍ ثُمَّ أتى بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا مَضَى على الْأُولَى وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ على الْأُخْرَى لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ على الْأُولَى فَيُتِمُّهَا فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلْأُولَى لِأَنَّهُ لم يَقْصِدْ الْخُرُوجَ عن الْأُولَى فَبَقِيَ فيها ولم يَقَعْ لِلثَّانِيَةِ وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن الْأُولَى بِالتَّكْبِيرَةِ مع النِّيَّةِ كما إذَا كان في الظُّهْرِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ صَارَ مُنْتَقِلًا من الظُّهْرِ فَكَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا نَوَاهُمَا جميعا لِأَنَّهُ ما رَفَضَ الْأُولَى فَبَقِيَ فيها فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في الثَّانِيَةِ ثُمَّ إذَا صَارَ شَارِعًا في الثَّانِيَةِ فإذا فَرَغَ منها أَعَادَ الصَّلَاةَ على الْأُولَى أَيْ يَسْتَقْبِلُ وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ ما تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ ما تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَنَقُولُ إنَّهَا تَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَغَيْرِهَا من نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ إلَّا الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ في هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَلْحَقُ بها غَيْرُهَا وَلِهَذَا لم يَلْحَقْ بها سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ حتى لم تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فيها مُفْسِدَةً وَكَذَا الْقَهْقَهَةُ في هذه الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ لِأَنَّا عَرَفْنَا الْقَهْقَهَةَ حَدَثًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا في غَيْرِهَا فَرْقٌ بين هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ فإنه لو سَبَقَهُ الْحَدَثُ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَبْنِي وَإِنْ عَرَفَ الْبِنَاءَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَارِدٌ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ جُعِلَتْ حَدَثًا لِقُبْحِهَا في الصَّلَاةِ‏.‏

وَقُبْحُهَا يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَوْقَ حُرْمَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فكنا ‏[‏فكان‏]‏ قُبْحُهَا في تِلْكَ الصَّلَاةِ فَوْقَ قُبْحِهَا في هذه فَجَعْلُهَا حَدَثًا هُنَاكَ لَا يَدُلُّ على جَعْلِهَا حَدَثًا هَهُنَا وَكَذَا الْمُحَاذَاةُ جُعِلَتْ مُفْسِدَةً في تِلْكَ الصَّلَاةِ تَعْظِيمًا لها وَلَيْسَتْ هذه مِثْلَ تِلْكَ في مَعْنَى التَّعْظِيمِ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ لِأَنَّ الْجَوَازَ وَتَحَمُّلَ الْمَشْيِ في أَعْلَى الْعِبَادَتَيْنِ يُوجِبُ التَّحَمُّلَ وَالْجَوَازَ في أَدْنَاهُمَا دَلَالَةً وَلِأَنَّا لو لم نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هَهُنَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا لِأَنَّ الناس يَفْرُغُونَ من الصَّلَاةِ قبل رُجُوعِهِ من التوضأ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِعَادَةِ لِمَا مَرَّ وَلَوْ لم نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هُنَاكَ لَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا فلما جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هَهُنَا أَوْلَى‏.‏

فصل بَيَانِ ما يُكْرَهُ في صلاة الجنازة

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ فيها فَنَقُولُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنِصْفِ النَّهَارِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنَّهُ قال ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ فيها وَأَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ أَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ إذْ لَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ في هذه الْأَوْقَاتِ فَإِنْ صَلَّوْا في أَحَدِ هذه الْأَوْقَاتِ لم يَكُنْ عليهم إعَادَتُهَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ صُلِّيَتْ وَقَعَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءً وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ في هذه الْأَوْقَاتِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْقَضَاءِ فيها دُونَ الْأَدَاءِ كما إذَا أَدَّى عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قبل تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في هذه الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى في الْوَقْتِ فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ الْفَرَائِضِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا على جِنَازَةٍ وقد غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يبدؤا ‏[‏يبدءوا‏]‏ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلُّونَ على الْجِنَازَةِ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ آكَدُ من صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ في تَقْدِيمِ الْجِنَازَةِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ‏.‏

فصل بَيَانِ من له وِلَايَةُ الصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ

وَأَمَّا بَيَانُ من له وِلَايَةُ الصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ فذكر في الْأَصْلِ أَنَّ إمَامَ الْحَيِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ إنْ حَضَرَ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَأَمِيرُ الْمِصْرِ وَإِنْ لم يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ من ذَوِي قَرَابَاتِهِ وَهَذَا هو حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا وَالتَّوْفِيقُ بين الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إذَا حَضَرَ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْقَاضِي لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ لِأَنَّهُ رضي بِإِمَامَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ فَيَدُلُّ على الرِّضَا بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَلِهَذَا لو عَيَّنَ الْمَيِّتُ أَحَدًا في حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ أَوْلَى من الْقَرِيبِ لِرِضَاهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ في كتاب الصَّلَاةِ بِإِمَامِ الْحَيِّ لِأَنَّ السُّلْطَانَ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْجَنَائِزَ ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ من عَصَبَتِهِ وَذَوِي قَرَابَاتِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَيِّتِ له وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى فَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَرِيبُ أَوْلَى من السُّلْطَانِ لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هذا أَمْرٌ مَبْنِيٌّ على الْوَلَايَةِ وَالْقَرِيبُ في مِثْلِ هذا مُقَدَّمٌ على السُّلْطَانِ كما في النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ من التَّصَرُّفَاتِ وَلِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ لِلْمَيِّتِ وَدُعَاءُ الْقَرِيبِ أَرْجَى لِأَنَّهُ يُبَالِغُ في إخْلَاصِ الدُّعَاءِ وَإِحْضَارِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ شَفَقَتِهِ وَتُوجَدُ منه زِيَادَةُ رِقَّةٍ وَتَضَرُّعٍ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ رضي الله عنهما لَمَّا مَاتَ قَدَّمَ الْحُسَيْنُ بن عَلِيٍّ سَعِيدَ بن الْعَاصِ لِيُصَلِّيَ عليه وكان وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ‏.‏

وقال لَوْلَا السُّنَّةُ ما قَدَّمْتُكَ وفي رواية‏:‏ قال لَوْلَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التَّقَدُّمِ لَمَا قَدَّمْتُكَ وَلِأَنَّ هذا من الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فإنه من الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ وَضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ يَتَّصِلُ بِالْوَلِيِّ لَا بِالسُّلْطَانِ فَكَانَ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْقَرِيبِ أَنْفَعَ لِلْمُوَلَّى عليه وَتِلْكَ وِلَايَةُ نَظَرٍ ثَبَتَتْ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عليه قيل ‏[‏قبل‏]‏ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ دُعَاءَ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى فَنَقُولُ بِتَقَدُّمِ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ دُعَاءُ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتُهُ مع أَنَّ دُعَاءَ الْإِمَامِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ على ما رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُحْجَبُ دُعَاؤُهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ الْإِمَامَ ثُمَّ تَقَدُّمُ إمَامِ الْحَيِّ ليس بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ لِمَا ذكرنا أَنَّهُ رَضِيَهُ في حَالِ حَيَاتِهِ وَأَمَّا تَقْدِيمُ السُّلْطَانِ فَوَاجِبٌ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْدِيمِهِ لَا يَخْلُو عن فَسَادِ التَّجَاذُبِ وَالتَّنَازُعِ على ما ذَكَرْنَا في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلَوْ كان لِلْمَيِّتِ وَلِيَّانِ في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ في الصَّلَاةِ وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا وَلَوْ قَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا على حِدَةٍ فَاَلَّذِي قَدَّمَهُ الْأَكْبَرُ أَوْلَى وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا إلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُمَا إلَّا أَنَّا قَدَّمْنَا الْأَسَنَّ لِسِنِّهِ فإذا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كان الْآخَرُ أَوْلَى فَإِنْ تَشَاجَرَ الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فصلى يُنْظَرُ إنْ صلى الْأَوْلِيَاءُ معه جَازَتْ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ وَإِنْ لم يُصَلُّوا معه فَلَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ من الْآخَرِ فَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ من شَاءَ لِأَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ كان الْأَقْرَبُ غَائِبًا بِمَكَانٍ تَفُوتُ الصَّلَاةُ بِحُضُورِهِ بَطَلَتْ وَلَايَتُهُ وَتَحَوَّلَتْ الْوَلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ وَلَوْ قَدَّمَ الْغَائِبُ غَيْرَهُ بِكتاب كان لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ أو يُقَدِّمَ من شَاءَ لِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قد سَقَطَتْ لِمَا أَنَّ في التَّوْقِيفِ على حُضُورِهِ ضررا ‏[‏ضرر‏]‏ بِالْمَيِّتِ وَالْوِلَايَةُ تَسْقُطُ مع ضَرَرِ الْمُوَلَّى عليه فَتُنْقَلُ إلَى الْأَبْعَدِ وَالْمَرِيضُ في الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ يُقَدِّمُ من شَاءَ وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَتَقَدَّمَ مع مَرَضِهِ فَكَانَ له حَقُّ التَّقْدِيمِ وَلَا حَقَّ لِلنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ في التَّقْدِيمِ لِانْعِدَامِ وَلَايَةِ التَّقَدُّمِ وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَالْوِلَايَةُ لِلِابْنِ دُونَ الزَّوْجِ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ مَاتَتْ له امْرَأَةٌ فقال لِأَوْلِيَائِهَا كنا أَحَقَّ بها حين كانت حَيَّةً فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بها وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْقَرَابَةَ لَا تَنْقَطِعُ لَكِنْ يُكْرَهُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَاهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ قال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى وَلَهُ في حُكْمِ الْوَلَايَةِ أَنْ يُقَدِّمَ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ له وَإِنَّمَا مُنِعَ من التَّقَدُّمِ حتى لَا يستخق ‏[‏يستخف‏]‏ بابيهِ فلم تَسْقُطْ وَلَايَتُهُ في التَّقْدِيمِ وَإِنْ كان لها ابْنٌ من زَوْجٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ على هذا الزَّوْجِ لِأَنَّهُ هو أولى ‏[‏الولي‏]‏ وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عليه وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى من الزَّوْجِ وَكَذَا مولى الْعَتَاقَةِ وابن الْمَوْلَى وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ قد انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَرَكَتْ أَبًا وَزَوْجًا وَابْنًا من هذا الزَّوْجِ فَلَا وَلَايَةَ لِلزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا وَأَمَّا الْأَبُ وَالِابْنُ فَقَدْ ذَكَرَ في كتاب الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ من غَيْرِهِ وَقِيلَ هو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى فَالِابْنُ أَحَقُّ إلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَبَ تَعْظِيمًا له وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى الْوَلَايَةُ لِلْأَبِ وَقِيلَ هو قَوْلُهُمْ جميعا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ لِلْأَبِ فَضِيلَةً على الِابْنِ وَزِيَادَةَ سِنٍّ وَالْفَضِيلَةُ تُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا في اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَلَايَاتِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَحَقُّ من الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْقَرِيبِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَلَوْ مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ أَبٌ وَأَبُ الْأَبِ فَالْوَلَايَةُ لِأَبِيهِ وَلَكِنَّهُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ الذي هو جَدُّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا له وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ ابْنُهُ أو عَبْدُهُ وَمَوْلَاهُ حاضر ‏[‏حاضرا‏]‏ فَالْوَلَايَةُ لِلْمُكَاتَبِ لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلَاهُ احْتِرَامًا له ثُمَّ إذَا صلى على الْمَيِّتِ يُدْفَنُ‏.‏

فصل في الدَّفْنِ

وَالْكَلَامُ في الدَّفْنِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ سُنَّةِ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وما يَتَّصِلُ بِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وُجُوبِهِ تَوَارُثُ الناس من لَدُنْ آدَمَ صلى ‏[‏صلوات‏]‏ اللَّهِ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا مع النَّكِيرِ على تَارِكِهِ وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ حتى إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ‏.‏

فصل سُنَّةِ الْحَفْرِ

وَأَمَّا سُنَّةُ الْحَفْرِ فَالسُّنَّةُ فيه اللَّحْدُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الشَّقُّ وَاحْتَجَّ أَنَّ تَوَارُثَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّقُّ دُونَ اللَّحْدِ وَتَوَارُثُهُمْ حُجَّةٌ وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم اللَّحْدُ لنا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا وفي رواية‏:‏ اللَّحْدُ لنا وَالشَّقُّ لِأَهْلِ الْكتاب وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ الناس أَنْ يُشَقَّ له أو يُلْحَدَ وكان أبو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ لَحَّادًا وأبو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ شَاقًّا فَبَعَثُوا رَجُلًا إلَى أبي عُبَيْدَةَ وَرَجُلًا إلَى أبي طَلْحَةَ فقال الْعَبَّاسُ بن عبد الْمُطَّلِبِ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْك فَوَجَدَ أَبَا طَلْحَةَ من كان بُعِثَ إلَيْهِ ولم يَجِدْ أَبَا عُبَيْدَةَ من بُعِثَ إلَيْهِ وَالْعَبَّاسُ رضي اللَّهُ عنه كان مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إنَّمَا تَوَارَثُوا الشَّقَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ وَلِهَذَا اخْتَارَ أَهْلُ بُخَارَى الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ لِتَعَذُّرِ اللَّحْدِ لِرَخَاوَةِ أَرَاضِيهِمْ وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ الْقَبْرُ ثُمَّ يُحْفَرُ في جَانِبِ الْقِبْلَةِ منه حَفِيرَةٌ فَيُوضَعُ فيه الْمَيِّتُ وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يُحْفَرَ حَفِيرَةٌ في وَسَطِ الْقَبْرِ فَيُوضَعُ فيه الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ على اللَّحْدِ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ وُضِعَ على قَبْرِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طُنٌّ من قَصَبٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأَى فُرْجَةً في قَبْرٍ فَأَخَذَ مدرة ‏[‏مدورة‏]‏ وَنَاوَلَهَا الْحَفَّارَ وقال سُدَّ بها تِلْكَ الْفُرْجَةَ فإن اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ من كل صَانِعٍ أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ وَالْمَدَرَةُ قِطْعَةٌ من اللَّبِنِ وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْعَاصِ أَنَّهُ قال اجْعَلُوا على قَبْرِي اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ كما جُعِلَ على قَبْرِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرِ أبي بَكْرٍ وَقَبْرِ عُمَرَ وَلِأَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِيَمْنَعَا ما يُهَالُ من التُّرَابِ على الْقَبْرِ من الْوُصُولِ إلَى الْمَيِّتِ وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَدُفُوفُ الْخَشَبِ لِمَا رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ على الْقُبُورِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أَنْ تُشَبَّهَ الْقُبُورُ بِالْعُمْرَانِ وَالْآجُرُّ وَالْخَشَبُ لِلْعُمْرَانِ وَلِأَنَّ الْآجُرَّ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِلْمَيِّتِ وَلِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ على الْمَيِّتِ تَفَاؤُلًا كما يُكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ قَبْرُهُ بِنَارٍ تَفَاؤُلًا وكان الشَّيْخُ الإمام أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يقول لَا بَأْسَ بِالْآجُرِّ في دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرَاضِي وكان أَيْضًا يُجَوِّزُ دُفُوفَ الْخَشَبِ وَاِتِّخَاذَ التَّابُوتِ لِلْمَيِّتِ حتى قال لو اتَّخَذُوا تَابُوتًا من حَدِيدٍ لم أَرَ بِهِ بَأْسًا في هذه الدِّيَارِ‏.‏

فصل سُنَّةِ الدَّفْنِ

وَأَمَّا سُنَّةُ الدَّفْنِ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وهو أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ في جَانِبِ الْقِبْلَةِ من الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ منه الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ في اللَّحْدِ وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ وَصُورَةُ السَّلِّ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ على يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَتُجْعَلَ رِجْلَا الْمَيِّتِ إلَى الْقَبْرِ طُولًا ثُمَّ تُؤْخَذُ رِجْلُهُ وَتُدْخَلُ رِجْلَاهُ في الْقَبْرِ وَيُذْهَبُ بِهِ إلَى أَنْ تَصِيرَ رِجْلَاهُ إلَى مَوْضِعِهِمَا وَيُدْخَلُ رَأْسُهُ الْقَبْرَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُدْخِلَ في الْقَبْرِ سَلًّا وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في كتابهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ يُسْتَغْنَى فيه عن رِوَايَةِ الحديث فإنه نَقَلَتْهُ الْعَامَّةُ عن الْعَامَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ أَبَا دُجَانَةَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُدْخِلَ في الْقَبْرِ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَصَارَ هذا مُعَارِضًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ على أَنَّا نَقُولُ أنه صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا أُدْخِلَ إلَى الْقَبْرِ سَلًّا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَاتَ في حُجْرَةِ عَائِشَةَ من قِبَلِ الْحَائِطِ وَكَانَتْ السُّنَّةُ في دَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ في الْمَوْضِعِ الذي قُبِضُوا فيه فَكَانَ قَبْرُهُ لَزِيقَ الْحَائِطِ وَاللَّحْدُ تَحْتَ الْحَائِطِ فَتَعَذَّرَ إدْخَالُهُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَسُلَّ إلَى قَبْرِهِ سَلًّا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا يُدْخَلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَلِأَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَكَانَ إدْخَالُهُ من هذا الْجَانِبِ أَوْلَى وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ هذا أَمْرٌ مَشْهُورٌ قُلْنَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ عن حَمَّادٍ رحمهما الله تعالى عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال حدثني من رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ في الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَحْدَثُوا السَّلَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ فَإِنَّهَا كانت أَرْضًا سَبْخَةً وَالله أعلم‏.‏

وَلَا يَضُرُّ وِتْرٌ دخل قَبْرَهُ أَمْ شَفْعٌ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ هِيَ الْوِتْرُ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْكَفَنِ وَالْغُسْلِ والأجمار وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا دُفِنَ أَدْخَلَهُ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بن الْعَبَّاسِ وَعَلِيٌّ وَصُهَيْبٌ رضي الله عنهم وَقِيلَ في الرَّابِعِ إنَّهُ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ وَقِيلَ إنَّهُ أبو رَافِعٍ فَدَلَّ أَنَّ الشَّفْعَ سُنَّةٌ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ في الْقَبْرِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْوَضْعِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْوِتْرُ وَالشَّفْعُ فيه سَوَاءٌ وَلِأَنَّهُ مِثْلُ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَيَحْمِلُهُ على الْجِنَازَةِ أَرْبَعَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ اثْنَانِ وَإِنْ كان شَفْعًا فَكَذَا هَهُنَا‏.‏

ما ‏[‏وما‏]‏ ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِانْتِقَاضِهِ بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مع أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ تَرْكُ السُّنَّةِ خُصُوصًا في دَفْنِ النبي صلى الله عليه وسلم وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ أَحَدٍ من قَرَابَتِهِ من الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الذي فيه الْكَافِرُ تَنْزِلُ فيه السَّخْطَةُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ عن ذلك وَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَضَعُوهُ على سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُوا عِنْدَ وَضْعِهِ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وإذا وُضِعَ في اللَّحْدِ قال وَاضِعُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ يقول بِاسْمِ اللَّهِ وفي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّهُ قال كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَدْخَلَ مَيِّتًا قَبْرَهُ وَضَعَهُ في اللَّحْدِ قال بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ كان إذَا دَفَنَ مَيِّتًا أو نَامَ قال بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وكان يقول النَّوْمُ وَفَاةٌ‏.‏

قال الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ مَعْنَى هذا بِاسْمِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَنَّاهُ وَلَيْسَ هذا بِدُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ على مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ عليه الْحَالَةُ وَإِنْ مَاتَ على غَيْرِ ذلك لم يُبَدَّلْ إلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الْأَرْضِ فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاتِهِ على الْمِلَّةِ وَعَلَى هذا جَرَتْ السُّنَّةُ وَيُوضَعُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِنَازَةَ رَجُلٍ فقال يا عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ اسْتِقْبَالًا وَقُولُوا جميعا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعُوهُ لِجَنْبِهِ وَلَا تَكُبُّوهُ لِوَجْهِهِ وَلَا تُلْقُوهُ لِظَهْرِهِ وَتُحَلُّ عُقَدُ أَكْفَانِهِ إذَا وُضِعَ في الْقَبْرِ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ وقد زَالَ هذا الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ وَلَوْ وُضِعَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كان قبل إهَالَةِ التُّرَابِ عليه وقد سَرَّحُوا اللَّبِنَ أَزَالُوا ذلك لِأَنَّهُ ليس بِنَبْشٍ وَإِنْ أُهِيلَ عليه التُّرَابُ تُرِكَ ذلك لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ وَلَا يُدْفَنُ الرَّجُلَانِ أو أَكْثَرُ في قَبْرٍ وَاحِدٍ هَكَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ من لَدُنْ آدَمَ إلَى يَوْمِنَا هذا فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذلك قَدَّمُوا أَفْضَلَهُمَا وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا من الصَّعِيدِ لِمَا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ وكان يُدْفَنُ في الْقَبْرِ رَجُلَانِ أو ثَلَاثَةٌ وقال قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا وَإِنْ كان رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ وَلَوْ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وصبي وَخُنْثَى وَصَبِيَّةٌ دُفِنَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثُمَّ الصَّبِيُّ خَلْفَهُ ثُمَّ الْخُنْثَى ثُمَّ الْأُنْثَى ثُمَّ الصَّبِيَّةُ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَهَكَذَا تُوضَعُ جَنَائِزُهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ عليها فَكَذَا في الْقَبْرِ وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها سُجِّيَ قَبْرُهَا بِثَوْبٍ وَنَعْشٍ على جِنَازَتِهَا لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا على السَّتْرِ فَلَوْ لم يُسَجَّ رُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فَيَقَعُ بَصَرُ الرِّجَالِ عليها وَلِهَذَا يُوضَعُ النَّعْشُ على جِنَازَتِهَا دُونَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ الْقَبْرَ من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ له مَسُّهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ منها أَوْلَى من الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لم يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا في قَبْرِهَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ لِلْوَضْعِ وَأَمَّا قَبْرُ الرَّجُلِ فَلَا يُسَجَّى عِنْدَنَا‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسَجَّى احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقبر ‏[‏أقبر‏]‏ سَعْدَ بن مُعَاذٍ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بن زَيْدٍ فَسَجَّى قَبْرَهُ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ يُدْفَنُ وقد سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَ ذلك عنه وقال إنَّهُ رَجُلٌ وفي رواية‏:‏ قال لَا تُشَبِّهُوهُ بِالنِّسَاءِ وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ لِأَنَّ الْكَفَنَ كان لَا يَعُمُّهُ فَسُتِرَ الْقَبْرُ حتى لَا يَبْدُوَ منه شَيْءٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان لِضَرُورَةٍ أُخْرَى من دَفْعِ مَطَرٍ أو حَرٍّ عن الدَّاخِلِينَ في الْقَبْرِ وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ في حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُرَبَّعُ وَيُسَطَّحُ لِمَا رَوَى الْمُزَنِيّ بِإِسْنَادِهِ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ جَعَلَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا وَلَنَا ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال أخبرني من رَأَى قَبْرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ أنها مُسَنَّمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ صلى عليه محمد بن الْحَنَفِيَّةِ وَكَبَّرَ عليه أَرْبَعًا وَجَعَلَ له لَحْدًا وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا وَضَرَبَ عليه فُسْطَاطًا وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ من صَنِيعِ أَهْلِ الْكتاب وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ فِيمَا منه بُدٌّ مَكْرُوهٌ وما رُوِيَ من الحديث مَحْمُولٌ على أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ جَعَلَ التَّسْنِيمَ في وَسَطِهِ حَمَلْنَاهُ على هذا بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا وَمِقْدَارُ التَّسْنِيمِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا من الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ أو أَكْثَرَ قَلِيلًا وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ الْبِنَاءَ على الْقَبْرِ وإن يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ وَكَرِهَ أبو يُوسُفَ الْكتابةَ عليه ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُجَصِّصُوا الْقُبُورَ وَلَا تَبْنُوا عليها وَلَا تَقْعُدُوا وَلَا تَكْتُبُوا عليها وَلِأَنَّ ذلك من باب الزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهَا وَلِأَنَّهُ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِلَا فَائِدَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ على تُرَابِ الْقَبْرِ الذي خَرَجَ منه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عليه بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ ولا بَأْسَ بِرَشِّ الْمَاءِ على الْقَبْرِ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ له وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ كَرِهَ الرَّشَّ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّطْيِينَ وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ يُوطَأَ على قَبْرٍ أو يُجْلَسَ عليه أو يُنَامَ عليه أو تُقْضَى عليه حَاجَةٌ من بَوْلٍ أو غَائِطٍ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن الْجُلُوسِ على الْقُبُورِ وَيُكْرَهُ أَنْ يصلي على الْقَبْرِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُصَلَّى على الْقَبْرِ قال أبو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يصلي على مَيِّتٍ بين الْقُبُورِ وكان عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ يَكْرَهَانِ ذلك وَإِنْ صَلَّوْا أَجْزَأَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا على عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ بين مَقَابِرِ الْبَقِيعِ وَالْإِمَامُ أبو هُرَيْرَةَ وَفِيهِمْ ابن عُمَرَ ولا ‏[‏رضي‏]‏ بَأْسَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ من غَيْرِ وَطْءِ الْقُبُورِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ من لَدُنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا‏.‏

فصل الشَّهِيد

وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ من يَكُونُ شَهِيدًا في الْحُكْمِ وَمَنْ لَا يَكُونُ وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا أَمَّا الْأَوَّلُ فمبني ‏[‏فبني‏]‏ على شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا حتى لو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أو تَرَدَّى من مَوْضِعٍ أو احْتَرَقَ بِالنَّارِ أو مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أو غَرِقَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ليس بِمَقْتُولٍ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَبِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ في الْمَعْرَكَةِ من سِلَاحٍ أو غَيْرِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ في حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ ما قُتِلَ كلهم بِسِلَاحٍ بَلْ منهم من قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَأَمَّا في الْمِصْرِ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فيه على ما نَذْكُرُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا حتى لو قُتِلَ بِحَقٍّ في قِصَاصٍ أو رُجِمَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ قُتِلُوا مَظْلُومِينَ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ جاء عَمُّهُ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قُتِلَ مَاعِزٌ كما تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لَا تَقُلْ هذا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ على أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عليه وَكَذَلِكَ من مَاتَ من حَدٍّ أو تَعْزِيرٍ أو عَدَا على قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَكَذَا لو قَتَلَهُ سَبُعٌ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْلُفَ عن نَفْسِهِ بَدَلًا هو مَالٌ حتى لو كان مَقْتُولًا خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَهُ في الْمِصْرِ نَهَارًا بِعَصًا صَغِيرَةٍ أو سَوْطٍ أو وَكَزَهُ بِالْيَدِ أو لَكَزَهُ بِالرِّجْلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ في هذه الْمَوَاضِعِ هو الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ وَذَا دَلِيلُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لأن غير السِّلَاحِ مِمَّا يَلْبَثَ فَكَانَ بِحَالٍ لو اسْتَغَاثَ لَحِقَهُ الْغَوْثُ فإذا لم يَسْتَغِثْ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعَانَ على قَتْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ ما إذَا قُتِلَ في الْمَفَازَةِ بِغَيْرِ السِّلَاحِ لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ الْقَتْلَ بِحُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا الْمَالِ لأنه ‏[‏ولأنه‏]‏ لو اسْتَغَاثَ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فلم يَصِرْ بِتَرْكِ الِاسْتِغَاثَةِ مُعِينًا على قَتْلِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ بِعَصًا كَبِيرَةٍ أو بِمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ أو بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أو بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ أو خَنَقَهُ أو غَرَّقَهُ في الْمَاءِ أو أَلْقَاهُ من شَاهِقِ الْجَبَلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى لِأَنَّ هذا كُلَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَهُ فَكَانَ الْوَاجِبُ فيه الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْوَاجِبُ هو الْقِصَاصُ فَكَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا وَلَوْ نَزَلَ عليه اللُّصُوصُ لَيْلًا في الْمِصْرِ فَقُتِلَ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ أو قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ لِأَنَّ الْقَتِيلَ لم يَخْلُفْ في هذه الْمَوَاضِعِ بَدَلًا هو مَالٌ وَلَوْ قُتِلَ في الْمِصْرِ نَهَارًا بِسِلَاحٍ ظُلْمًا بِأَنْ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ أو ما يُشْبِهُ الْحَدِيدَةَ كَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ وما أَشْبَهَ ذلك أو ما يَعْمَلُ عَمِلَ الْحَدِيدُ من جُرْحٍ أو قَطْعٍ أو طُعِنَ بِأَنْ قَتَلَهُ بِزُجَاجَةٍ أو بُلَيْطَةِ قَصَبٍ أو طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا زُجَّ له أو رَمَاهُ بِنُشَّابَةٍ لَا نَصْلَ لها أو أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ‏.‏

وفي الْجُمْلَةِ كُلُّ قَتْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كان ‏[‏فالقتيل‏]‏ شَهِيدٌ‏.‏ وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا غُسِّلَا وَلِأَنَّ هذا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا وهو الْمَالُ أو الْقِصَاصُ فما هو في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ كالقتيل ‏[‏كالقتل‏]‏ خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ هذا الْبَدَلِ دَلِيلُ انْعِدَامِ الشُّبْهَةِ وَتَحَقُّقِ الظُّلْمِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ إذْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مع الشُّبْهَةِ فَصَارَ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِخِلَافِ ما إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا هو مَالٌ لِأَنَّ ذلك أَمَارَةُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ في الْقَتْلِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عن الْمَقْتُولِ فإذا وَصَلَ إلَيْهِ الْبَدَلُ صَارَ الْمُبْدَلُ كَالْبَاقِي من وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا في الشَّهَادَةِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عن الْمَحَلِّ بَلْ هو جَزَاءُ الْفِعْلِ على طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا غُسِّلَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا اُرْتُثَّا وَالِارْتِثَاثُ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ على ما نَذْكُرُ وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ في مَحَلَّةٍ أو مَوْضِعٍ يَجِبُ فيه الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لم يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا هو مَالٌ وَكَذَا الْأَبُ إذَا قَتَلَ ولده ‏[‏ابنه‏]‏ عَمْدًا كان شَهِيدًا لأن أَخْلَفَ الْقِصَاصَ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ شَهَادَةُ الْمَقْتُولِ وَمِنْهَا أَنْ لا يَكُونَ مُرْتَثًّا في شَهَادَتِهِ وهو أَنْ لَا يَخْلَقَ شَهَادَتُهُ مَأْخُوذٌ من الثَّوْبِ الرَّثِّ وهو الْخَلَقُ‏.‏

وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا طُعِنَ حُمِلَ إلَى بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ وكان شَهِيدًا وَكَذَا عَلِيٌّ حُمِلَ حَيًّا بَعْد ما طُعِنَ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ وكان شَهِيدًا وَعُثْمَانُ أُجْهِزَ عليه في مَصْرَعِهِ ولم برتث ‏[‏يرتث‏]‏ فلم يُغَسَّلْ وَسَعْدُ بن مُعَاذٍ ارْتَثَّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بَادِرُوا إلَى غُسْلِ صَاحِبِكُمْ سَعْدٍ كيلا تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ بِغُسْلِهِ كما سَبَقَتْنَا بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ وَلِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَاتُوا على مَصَارِعِهِمْ ولم يُرْتَثُّوا حتى رُوِيَ أَنَّ الْكَأْسَ كان يُدَارُ عليهم فلم يَشْرَبُوا خَوْفًا من نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ فإذا اُرْتُثَّ لم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا اُرْتُثَّ وَنُقِلَ من مَكَانِهِ يَزِيدُهُ النَّقْلُ ضَعْفًا وَيُوجِبُ حُدُوثَ آلَامٍ لم تَحْدُثْ لَوْلَا النَّقْلُ وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ عَقِيبَ تَرَادُفِ الْآلَامِ‏.‏

فَيَصِيرُ النَّقْلُ مُشَارِكًا لِلْجِرَاحَةِ في إثَارَةِ الْمَوْتِ وَلَوْ تَمَّ الْمَوْتُ بِالنَّقْلِ لَسَقَطَ الْغُسْلُ وَلَوْ تَمَّ بِإِيلَامٍ سِوَى الْجُرْحِ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لم يَتَمَحَّضْ بِالْجُرْحِ بَلْ حَصَلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ وهو النَّقْلُ وَالْجُرْحُ مَحْظُورٌ وَالنَّقْلُ مُبَاحٌ فلم يمتب ‏[‏يمت‏]‏ سبب ‏[‏بسبب‏]‏ تَمَحَّضَ حَرَامًا فلم يَصِرْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ثُمَّ الْمُرْتَثُّ من خَرَجَ عن صِفَةِ الْقَتْلَى وَصَارَ إلَى حَالِ الدُّنْيَا بِأَنْ جَرَى عليه شَيْءٌ من أَحْكَامِهَا أو وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ من مَنَافِعِهَا وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ من حُمِلَ من الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ في بَيْتِهِ أو على أَيْدِي الرِّجَالِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ أو شَرِبَ أو بَاعَ أو ابْتَاعَ أو تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ أو قام من مَكَانِهِ ذلك أو تَحَوَّلَ من مَكَانِهِ إلَى مَكَان آخَرَ وَبَقِيَ على مَكَانِهِ ذلك حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا أو لَيْلَةً كَامِلَةً وهو يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى إذَا بَقِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ حتى صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وهو يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَإِنْ بَقِيَ في مَكَانَهُ لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِمُرْتَثٍّ وقال مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى إنْ بَقِيَ يَوْمًا فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَلَوْ أَوْصَى كان ارْتِثَاثًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ فَجَوَابُ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى خَرَجَ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ من أُمُورِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا من أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا فَيَنْقُضُ ذلك مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى مَحْمُولٌ على ما إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ من أُمُورِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ كَوَصِيَّةِ سَعْدِ بن الرَّبِيعِ وهو ما رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ يوم أُحُدٍ وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هل من رَجُلٍ يَنْظُرُ ما فَعَلَ سَعْدُ بن الرَّبِيعِ» فَنَظَرَ عبد اللَّهِ بن عبد الرحمن من بَنِي النَّجَّارِ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا في الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ فقال له إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ في الْأَحْيَاءِ أنت أَمْ في الْأَمْوَاتِ فقال أنا في الْأَمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِّي السَّلَامَ وَقُلْ له إنَّ سَعْدَ بن الرَّبِيعِ يقول جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ ما يجزي نَبِيٌّ عن أُمَّتِهِ وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لهم إنَّ سَعْدًا يقول لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُصَ إلَى نَبِيِّكُمْ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ قال ثُمَّ لم أَبْرَحْ حتى مَاتَ فلم يُغَسَّلْ وَصُلِّيَ عليه وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إنْ أَوْصَى بِمِثْلِ وَصِيَّةِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ فَلَيْسَ بِارْتِثَاثٍ وَالصَّلَاةُ ارْتِثَاثٌ لِأَنَّهَا من أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَلَوْ جُرَّ بِرِجْلِهِ من بَيْنِ الصَّفَّيْنِ حتى تَطَؤُهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ لم يَكُنْ مُرْتَثًّا لِأَنَّهُ ما نَالَ شيئا من رَاحَةِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ ما إذَا مَرِضَ في خَيْمَتِهِ أو في بَيْتِهِ لِأَنَّهُ قد نَالَ الرَّاحَةَ بِسَبَبِ ما مَرِضَ فَصَارَ مُرْتَثًّا ثُمَّ الْمُرْتَثُّ وَإِنْ لم يَكُنْ شَهِيدًا في حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ في حَقِّ الثَّوَابِ حتى أنه يَنَالُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ أنهم شُهَدَاءُ بِشَهَادَةِ رسول ‏[‏الرسول‏]‏ الله صلى اللَّهُ عليه وسلم لهم بِالشَّهَادَةِ وَإِنْ لم يَظْهَرْ حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ في الدُّنْيَا ومنها كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُسْلِمًا فَإِنْ كان كَافِرًا كَالذِّمِّيِّ إذَا خَرَجَ مع الْمُسْلِمِينَ لِلْقِتَالِ فَقُتِلَ يُغَسَّلُ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عن الْمُسْلِمِ إنَّمَا ثَبَتَ كَرَامَةً له وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُكَلَّفًا هو شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ شَهِيدَيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى ليس بِشَرْطٍ وَيَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ولم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ فَكَانَ شَهِيدًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا لَمَّا أَوْجَبَ تَطْهِيرَ من ليس بِطَاهِرٍ لِارْتِكَابِهِ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ فَلَأَنْ يُوجِبَ تَطْهِيرَ من هو طَاهِرٌ أَوْلَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ في حَقِّهِمْ كَرَامَةً لهم فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا فِيمَنْ لَا يُسَاوِيهِمْ في اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وما ذَكَرُوا من مَعْنَى الطَّهَارَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ على الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم غُسِّلُوا وَرَسُولُنَا سَيِّدُ الْبَشَرِ صلى اللَّهُ عليه وسلم غُسِّلَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَطْهَرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيقِ ذلك بِالتَّطْهِيرِ مع أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ يُطَهِّرُهُ السَّيْفُ فَكَانَ الْقَتْلُ في حَقِّهِ وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ شَرْطٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى لو قُتِلَ جُنُبًا لم يَكُنْ شَهِيدًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ على طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغُسْلِ كَالذَّكَاةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ غَسْلِ الْعُرُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ما رُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حتى قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ ما بَالُهُ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فقالت خَرَجَ وهو جُنُبٌ حين سمع الْهَيْعَةَ» فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» أَشَارَ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ عِلَّةُ الْغُسْلِ وَالْمَعْنَى فيه إن الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً من حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا رَافِعَةً لنجاسة ‏[‏لنجاسته‏]‏ كانت كَالذَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ من حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فِيمَا كان حَلَالًا إمَّا لَا تَرْفَعُ حُرْمَةً كانت ثَابِتَةً وَهَذَا لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مَانِعَةً بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا تَكُونُ رَافِعَةً لِأَنَّ الْمَنْعَ أَدْوَنُ من الرَّفْعِ فَأَمَّا الْحَدَثُ فَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ ضَرُورَةُ الْمَنْعِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عن الْحَدَثِ إذْ لَا بُدَّ من زَوَالِ الْعَقْلِ سَابِقًا على الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ الْحَدَثُ لَا مَحَالَةَ وَالشَّهَادَةُ مَانِعَةٌ من نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فَلَوْ لم يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ بِالشَّهَادَةِ لَاحْتِيجَ إلَى غَسْلِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فلم يَظْهَرْ أَثَرُ مَنْعِ الشَّهَادَةِ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فَقُلْنَا إنَّ الشَّهَادَةَ تَرْفَعُ ذلك الْحَدَثَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ لَا مَحَالَةَ لِيَنْعَدِمَ أَثَرُ الشَّهَادَةِ بَلْ تُوجَدُ في النُّدْرَةِ فلم يَرْفَعْ وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا اُسْتُشْهِدَتَا فَإِنْ كان ذلك بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَطَهَارَتِهِمَا قبل الِاغْتِسَالِ فَالْكَلَامُ فِيهِمَا وفي الْجُنُبِ سَوَاءٌ وَإِنْ كان قبل انْقِطَاعِ الدَّمِ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُغَسَّلَانِ كَالْجُنُبِ لِوُجُودِ شَرْطِ الِاغْتِسَالِ وهو الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وفي رواية‏:‏ لَا يُغَسَّلَانِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ وَجَبَ بَعْدُ قبل الْمَوْتِ قبل انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَوْ وَجَبَ وَجَبَ بِالْمَوْتِ وَالِاغْتِسَالُ الذي يَجِبُ بِالْمَوْتِ يَسْقُطُ بِالشَّهَادَةِ وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ النِّسَاءَ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يوم الْقِيَامَةِ من قَتَلَهُنَّ فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُنَّ كَالرِّجَالِ وَالله أعلم‏.‏

وإذا عُرِفَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ إذَا قُتِلَ الرَّجُلُ في الْمَعْرَكَةِ أو غَيْرِهَا وهو يُقَاتِلُ أَهْلَ الْحَرْبِ أو قُتِلَ مُدَافِعًا عن نَفْسِهِ أو مَالِهِ أو أَهْلِهِ أو وَاحِدٍ من الْمُسْلِمِينَ أو أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ شَهِيدٌ سَوَاءٌ قُتِلَ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ في حَقِّهِ فَالْتَحَقَ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَقْتُولًا من جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا لم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ دَلَّ عليه قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهَذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَيَكُونُ شَهِيدًا بِشَهَادَةِ النبي صلى الله عليه وسلم وَكَذَا إذَا قُتِلَ في مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُغَسَّلُ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِأَنَّ على أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْبَاغِي فَهَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا وهو الْقِصَاصُ وَهَذَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ على ما مَرَّ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَمَّارٍ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ بِصِفِّينَ تَحْتَ رَايَةِ عَلِيٍّ فقال لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةُ بِالْجَادَّةِ وكان قَتِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بن صُوحَانَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يوم الْجَمَلِ فقال لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يوم الْقِيَامَةَ من قَتَلَنِي وَعَنْ عَلِيٍّ عنه أَنَّهُ كان لَا يُغَسِّلُ من قُتِلَ من أَصْحَابِهِ وَلِأَنَّهُ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لِأَنَّهُ قُتِلَ قَتْلًا تَمَحَّضَ ظُلْمًا ولم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ في قَتْلِ الْبَاغِي مَمْنُوعٌ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إن كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَتِيلُ غَيْرِ الْبَاغِي وَإِنْ وَجَبَ عليه الْقِصَاصُ لَكِنَّ ذلك أَمَارَةٌ تُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ على ما مَرَّ فَلَا يُوجِبُ قَدْحًا في الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَلَوْ وُجِدَ في الْمَعْرَكَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ من جِرَاحَةٍ أو خَنْقٍ أو ضَرْبٍ أو خُرُوجِ الدَّمِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فإذا لم يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يَكُنْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ بَلْ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ من شِدَّةِ الْفَزَعِ وقد يُبْتَلَى الْجَبَانُ بهذا فَإِنْ كان بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كان بِذَلِكَ السَّبَبِ وَإِنَّهُ كان من الْعَدُوِّ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عليه وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من مَحَارِقِهِ يُنْظَرُ إنْ كان مَوْضِعًا يَخْرُجُ الدَّمُ منه من غَيْرِ آفَةٍ في الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ وَالذَّكَرِ وَالدُّبُرِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَرْءَ قد يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ وقد يَبُولُ دَمًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ وقد يَخْرُجُ الدَّمُ من الدُّبُرِ من غَيْرِ جُرْحٍ في الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في سُقُوطِ الْغُسْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ من هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا لِآفَةٍ في الْبَاطِنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ على رَأْسِهِ حتى خَرَجَ الدَّمُ من أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من فَمِهِ فَإِنْ كان يَنْزِلُ من رَأْسِهِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ ما يَنْزِلُ من الرَّأْسِ فَنُزُولُهُ من جَانِبِ الْفَمِ أو من جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ وَإِنْ كان يَعْلُو من جَوْفِهِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَصْعَدُ من الْجَوْفِ إلَّا لِجُرْحٍ في الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا نُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِلَوْنِ الدَّمِ وَالله أعلم‏.‏

وَلَوْ وُجِدَ في عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانُوا لَقَوْا الْعَدُوَّ فَهُوَ شَهِيدٌ وَلَيْسَ فيه قَسَامَةٌ وَلَا دِيَةٌ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْعَدُوِّ ظاهرا ‏[‏وظاهرا‏]‏ كما لو وُجِدَ قَتِيلًا في الْمَعْرَكَةِ وَإِنْ كَانُوا لم يَلْقَوْا الْعَدُوَّ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ليس قَتِيلَ الْعَدُوِّ أَلَا تَرَى أَنَّ فيه الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ وَلَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ الْعَدُوِّ وَهُمْ رَاكِبُوهَا أو سَائِقُوهَا أو قَائِدُوهَا فَمَاتَ أو نَفَّرَ الْعَدُوُّ دَابَّتَهُ أو نَخَسَهَا فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ أو رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ أو كان الْمُسْلِمُونَ في سَفِينَةٍ فَرَمَاهُمْ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقُوا أو تَعَدَّى هذا الْحَرِيقُ إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى فيها مُسْلِمُونَ فَاحْتَرَقُوا أو سَيَّلُوا عليهم الْمَاءَ حتى غَرِقُوا أو أَلْقَوْهُمْ في الْخَنْدَقِ أو من السُّورِ بِالطَّعْنِ بِالرُّمْحِ وَالدَّفْعِ حتى مَاتُوا أو أَلْقَوْا عليهم الْجِدَارَ كَانُوا شُهَدَاءَ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ حَصَلَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ فَيَلْحَقُهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ وَلَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ من دَابَّةِ الْعَدُوِّ أو من سَوَادِهِمْ من غَيْرِ تَنْفِيرٍ منهم فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ أو انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فالقوا أَنْفُسَهُمْ في الْخَنْدَقِ أو من السُّورِ حتى مَاتُوا لم يَكُونُوا شُهَدَاءَ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ وَكَذَلِكَ إذَا حَمَلَ على الْعَدُوِّ فَسَقَطَ عن فَرَسِهِ أو كان الْمُسْلِمُونَ يَنْقُبُونَ عليهم الْحَائِطَ فَسَقَطَ عليهم فَمَاتُوا لم يَكُونُوا شُهَدَاءَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَأَصَّلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في الزِّيَادَاتِ في هذه الْمَسَائِلِ أَصْلًا فقال إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ يُنْسَبُ إلَى الْعَدُوِّ كان شَهِيدًا وَإِلَّا فَلَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِعَمَلِ الْحِرَابِ وَالْقِتَالِ كان شَهِيدًا وَإِلَّا فَلَا سَوَاءٌ كان مَنْسُوبًا إلَى الْعَدُوِّ أو لَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِمُبَاشَرَةِ الْعَدُوِّ بِحَيْثُ لو وُجِدَ ذلك الْقَتْلُ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن وُجُوبِ قِصَاصٍ أو كَفَّارَةٍ كان شَهِيدًا وإذا صَارَ مَقْتُولًا بِالتَّسَبُّبِ لم يَكُنْ شَهِيدًا وَجِنْسُ هذه الْمَسَائِلِ في الزِّيَادَاتِ‏.‏

فصل حُكْم الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا

وَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا فَنَقُولُ إنَّ الشَّهِيدَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى في أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ في حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُغَسَّلُ لِأَنَّ الْغُسْلَ كَرَامَةٌ لِبَنِي آدَمَ وَالشَّهِيدُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ حَسْبَمَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ الْغُسْلُ في حَقِّهِ أَوْجَبَ وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْمُرْتَثُّ وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَكَذَا الشَّهِيدُ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَجَبَ تَطْهِيرًا له أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عليه بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عليه فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا له وَإِنَّمَا لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ تَخْفِيفًا على الْأَحْيَاءِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ الناس كان مَجْرُوحًا لِمَا أَنَّ ذلك الْيَوْمَ كان يوم بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ فلم يَقْدِرُوا على غُسْلِهِمْ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال في شُهَدَاءِ أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يوم الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ‏:‏ «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فإنه ما من جَرِيحٍ يُجْرَحُ في سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا وهو يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ فَالنبي صلى الله عليه وسلم لم يَأْمُرْ بِالْغُسْلِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وهو أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يوم الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا فَلَا يُزَالُ عَنْهُمْ الدَّمُ بِالْغُسْلِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لهم يوم الْقِيَامَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ من باب الْكَرَامَةِ له وإن الشَّهَادَةَ جُعِلَتْ مَانِعَةً عن حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ كما في شُهَدَاءِ أُحُدٍ وما ذُكِرَ من تَعَذُّرِ الْغُسْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ يُزَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ التي أَصَابَتْهُمْ لَمَّا لم تَكُنْ مَانِعَةً لهم من الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ كَيْفَ صَارَتْ مَانِعَةً من الْغُسْلِ وهو أَيْسَرُ من الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ لو كان لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يتيمموا ‏[‏ييمموا‏]‏ كما لو تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ في زَمَانِنَا لِعَدَمِ الْمَاءِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ كما لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ وَالْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ وما ذُكِرَ من التَّعَذُّرِ لم يَكُنْ يَوْمَئِذٍ وَلِذَا لم يُغَسَّلْ عُثْمَانُ وَعَمَّارٌ وكان بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا من تَرْكِ الْغُسْلِ على قَتْلَى أُحُدٍ غير ما فَهِمَ الْحَسَنُ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكَفَّنُ في ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ» وقد رُوِيَ في ثِيَابِهِمْ وَرَوَيْنَا عن عَمَّارٍ وَزَيْدِ بن صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا الحديث غير أَنَّهُ يُنْزَعُ عنه الْجِلْدُ وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْزَعُ عنه شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ»‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال تَنْزِعُ عنه الْعِمَامَةَ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَهَذَا لِأَنَّ ما يُتْرَكُ يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا وَالْكَفَنُ ما يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُلْبَسُ إمَّا لِلتَّجَمُّلِ وَالزِّينَةِ أو لِدَفْعِ الْبَرْدِ أو لِدَفْعِ مغرة ‏[‏معرة‏]‏ السِّلَاحِ وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إلَى شَيْءٍ من ذلك فلم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك كَفَنًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ الثِّيَابُ التي يُكَفَّنُ بها وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ وَلِأَنَّ هذا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عليهم من الْأَسْلِحَةِ وقد نُهِينَا عن التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَيَزِيدُونَ في أَكْفَانِهِمْ ما شاؤوا وَيُنْقِصُونَ ما شاؤوا لِمَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه كان عليه نَمِرَةٌ لو غُطِّيَ رَأْسُهُ بها بَدَتْ رِجْلَاهُ وَلَوْ غُطِّيَتْ بها رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُغَطَّى بها رَأْسُهُ وَيُوضَعُ على رِجْلَيْهِ شَيْءٌ من الْإِذْخِرِ وَذَاكَ زِيَادَةٌ في الْكَفَنِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ على ما عليه حتى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ من باب الْكَمَالِ فَكَانَ لهم ذلك وَالنُّقْصَانُ من باب دَفْعِ الضَّرَرِ عن الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عليه من الثِّيَابِ ما يَضُرُّ تَرْكُهُ بِالْوَرَثَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَهُوَ كَغَيْرِهِ من الْمَوْتَى وقال الشَّافِعِيُّ أنه لَا يُصَلَّى عليه كما لَا يُغَسَّلُ‏.‏

وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى على أَحَدٍ من شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ له وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ وَالشَّهِيدُ قد تَطَهَّرَ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ عن دَنَسِ الذُّنُوبِ على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ فاستغنى عن ذلك كما استغنى عن الْغُسْلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الشُّهَدَاءَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ في كتابهِ وَالصَّلَاةُ على الْمَيِّتِ لَا على الْحَيِّ وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شُهَدَاءِ أُحُدٍ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ حتى رُوِيَ أَنَّهُ صلى على حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً وَبَعْضُهُمْ أَوَّلُوا ذلك بِأَنَّهُ كان يؤتي بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عليه رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَمْزَةُ رضي اللَّهُ عنه بين يَدَيْهِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كان يُصَلِّي على حَمْزَةَ في كل مَرَّةٍ فروي أَنَّهُ صلى عليه سَبْعِينَ صَلَاةً وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان ذلك على حَسَبِ الرِّوَايَةِ وكان مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ وما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه فَغَيْرُ صَحِيحٍ وَقِيلَ أنه كان يَوْمَئِذٍ مَشْغُولًا فإنه قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فلم يَكُنْ حَاضِرًا حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فَلِهَذَا روي ما روي وَمَنْ شَاهَدَ النبي صلى الله عليه وسلم قد رُوِيَ أَنَّهُ صلى عليهم ثُمَّ سمع جَابِرٌ مُنَادِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى في مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ فَدَفَنَهُمْ فيها وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بها الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَفَرَةِ وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ وما ذُكِرَ من حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالشَّهَادَةِ فَالْعَبْدُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ لَا يستغنى عن الدُّعَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا على رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّ دَرَجَتَهُ كانت فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْحَيَاةِ في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ فَأَمَّا في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ وَتُنْكَحُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عليه من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَيِّتًا فيه فَيُصَلَّى عليه وَالله أعلم‏.‏بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ‏.‏